الدعوى ومرور الزمن: قوة الأمر المقضي
فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي/ قاضي المحكمــــة العــليا -
الأصلُ أنَّ المقضي عليه في حادثة بحكمٍ لا يقبلُ الطعنَ لا تسمعُ دعواه ولا بينته بعد القضاء عليه في نفس الحادثة؛ إلا إذا ادعى تلقي الملك من المدعي بعد القضاء عليه من جديد أو ادعى النتاج أو برهن على إبطال القضاء أو كان هنالك عذر شرعي خفي على المحكوم عليه أثناء الخصومة السابقة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
والدفع بعد القضاء بواحد مما ذكر صحيح ويحكم القاضي في القضية بما وضح له بموجب شرع الله وهذا ليس نقضا للقضاء السابق وإنما قضاء لاحق بسبب تلقي المحكوم عليه محل الحكم السابق من المحكوم له سابقا من جديد بعد الحكم الأول، فكما يسمع الدفع قبله يسمع بعده ولكن بهذه الثلاثة.
والعذر في ذلك كما إذا برهن المحكوم عليه على إبطال القضاء بأن أقام البينة على إقرار المقضي له أن ما قضي له به لا حق له فيه وإنما هو في الحقيقة للمقضي عليه، وأمر أحدا أن يشتري له ذلك الشيء من المقضي عليه وقد خفيت عليه الحجة فإذا برهن على رجوعه عن ذلك وأنه مما خفي عليه سمعت دعواه فقد يظهر بعد إقراره على خطأ الناقل أو ظهر غش أو تدليس في التقاضي تسبب فيه المدعي أو ظهرت حجة صحيحة خفيت عليه أوَّلاً ما لم يهدم كل حجة له في الخصومة.
وكذا فيما هو حق متجدد ويتغير بتغير الأزمان والأحوال كحقوق الوقف والنفقات والحضانة ومصلحة اليتيم والغائب والحقوق العامة المتجددة التي لا يختص بها فرد معين فيصار في هذا كله إلى ما فيه مصلحتهم ورفع الضرر عنهم.
ومن الأعذار المعتبرة ما يطرأ على الورثة بعد تصديق الورثة الزوجة على الزوجية ودفع الميراث لها من التركة ثم دعواهم استرجاع الميراث بحكم الطلاق المانع منه فتسمع دعواهم بقيام العذر في ذلك لهم حيث استصحبوا في إقرارهم الحال في الزوجية وخفيت عليهم بينونة الطلاق أو بينته.
ومنها ما إذا أدى المكاتب بدل الكتابة ثم ادعى العتق قبل الكتابة لأنه قد يخفى عليه العتق فيعلم به بعد الكتابة ومنها إذا أقر له بالرق ثم ادعى عليه بالعتق.
ومنها ما إذا استأجر دارا ثم ادعى ملكها على المؤجر وأنها صارت إلى المستأجر ميراثا من أبيه إذ هو مما يخفى.
ومنها أخ الزوجة إذا مات ثم قاسم الزوج الميراث ثم ادعى أنه كان طلقها.
ومنها ما إذا اختلعت المرأة من زوجها بمال ثم ادعت أنه قد أبانها قبل ذلك فتسمع دعواها وترجع إليه ببدل الخلع.
ومنها ما إذا استأجر ثوبا مطويا في جراب أو منديل أو غير ذلك فلما نشره قال هذا متاعي سمعت دعواه وقبلت بينته إن ادعى عدم العلم بأنه ثوبه وان المؤجر غشه أو خدعه بذلك.
فالدعوى مسموعة في جميع هذه الصور مطلقا لموضع العذر على الراجح.
واعلم أن المراد بالقضاء هنا قضاء الإلزام لا قضاء الترك فإن المقضي عليه قضاء ترك تسمع دعواه وبينته ويصير مقضيا له بعد ذلك في تلك الحادثة.
بيان ذلك أن من كان له نهر يمر في أرض غيره فليس له حريم لقناة النهر إن لم يوجد دليل ظاهر على الحريم بأن كان العمار متصلا بقناة النهر؛ لأن ظاهر الحال شاهد لصاحب الأرض بالملك إلا إن بين صاحب النهر أن النهر سابق على الملك بأن كانت الأرض مواتا غير مملوكة ولم يسبق لها إحياء وإنما وضع هذا يده عليها وأحياها بعد ذلك ولم يترك حريما للنهر....
ولو قال المدعى عليه في الشيء هو لي وفي يدي فأقام المدعي بينة وحكم له الحاكم بها ثم بان كونه في غير يد المدعى عليه فالأقرب عدم نفوذ الحكم إن كان ذو اليد حاضرا وينفذ إن كان غائبا وتوفرت شروط القضاء على الغائب وعلم مما مر أن من يدعي حقا لغيره ولم يكن وكيلا ولا وليا لا تسمع دعواه ومحله إن كان يدعي حقا لغيره غير منتقل إليه بخلاف ما إذا كان منتقلا منه إليه.